قيامة الموت
____________
وما بكينا ولكنها الخوافق مَن تبكينا ، لا نعلم هل جفت غصون المآقي أم تحجرت منابعها فينا ؟! ..
اختنق النشيج وخرست الأنفاس في الحناجر ، واستأصل النحيب من أرواحنا كل رذاذ قد ألقتها تنهيدة من سنبلة خدعتها شمس الأصيل وتوارت دون علمها خلف طوابير من قناصة الجحيم في روابينا..
لا أدري أي سفر حادّ هذا الذي يعصف بمسامات الروح ، كصيحة مسمارية مزقت أوتارها ، وجذّرت ندوب المقابر السوداء على ضفاف المشانق في خواصرنا ..
لكنني كل ما أعرفه أنني ما زلت هنا في مدينتي ، التي اعتدتُ أن تَهش إليّ بدروبها ،فأذرعها مع نسائم الروح ، لكنها اليوم تنظر إلي بصمت غريب الملامح ، بعدما ترجلت أوتاري عن صهوة صدمة صامتة مشروخة تفجر بركانها في غياهب وجع قد اغتصب سكون الصدر فينا ..
قطبت جبينها ، وعلا وجهي شحوب عمر قد مضى ، ومخالب ذكرى جالت في شقوق الفضاء المبتور قبل أن ترسو على ركن في ذلك الصغير المحموم ..
انتابني شهيق مكبل بشرانق من إغماء لوعي ما زال على قيد الخارطة ..
يا الله .. يا الله ..
أ هذه مدينتي ؟! أم شبح قد التهم ظلالها بخديعة الظلام ..
أ هذه مدينتي أم بقايا من نداءات وأنات لمنابر ، قد جلجل في مآذنها صوت الحق فامتزج رحيق الغيث ولهيب البكاء المتمرد ، وطنين قُطعت أحبال أجراسه على مرأى الأنام ..
أ هذه مدينتي أم فتات من زفير لزهيرات ليمون وغصن زيتون قد كان هنا يوما يدعو للسلام ..
تثاقلت خطاي، تداخلت الذاكرة وأنا أنسلّ مني ، أختبئ وراء قلب يدعي كبرياء الوجود ، لا يعترف بنقيع الآمال ..
وما هي إلا لحظات مغبرة الملامح ، مكدرة المزاج بالرغم من عفته ، حتى بدأ صراع ذاكرتي مع مخالب الضياع ..
تسمرتُ في مكاني ، وإذا بفيض من ظلمة السحاب العابس يجتاح معالم الأجفان ، وكأنه ليل أسود يصول ويجول في أركاني بلا شفقة أو رحمة أو ربما على سبيل الهذيان ..
هنا ..
على حافة النظرات فراشة تواسي طيف لعبتها المسلوبة ، تلك المشنوقة على أعتاب الطفولة الجرداء ..
وهنا وبين عيون المحطات ، براعم صغيرة تظلل بفرشاتها مهودها التي أقامتها بكهف ليس له معالم ؛ ليواريه عن كواسر مسعورة تنهش بأنيابها المسمومة وسادة الأمنيات ..
تحفر للشمس بأناملها الغضة أزقة متشعبة لئلا تهجر سكناها وتسكنها العتمات ..
يتشابك ذلك الجسد الوهن وتلك الروح الكفيفة لتسري بهما رجفة بُح أنينها من سطوة عناد للبقاء ، لربما هو عصيان الأنا لنكمل المسير ..
تعثرت نبضات الحنين بوشاح مدينتي الذي شده عطر مَن كانت لهم السماء غاية ، وبلوغ نهر الأجنان لهم خير سقاية ..
جررتُ صرخات ألم مكبوتة بين جوانحي وأكملت المسير ، خانتني النظرات تائهة ، هائمة على وجهها ، تتوسل مني الرحيل ، صحوت على تنهيدة من أطلال لأحلام رقصت على رفاتها مرايا مدججة بحقد عقيم ، وفوارغ من جحيم منقوعة في الطين ..
هنا .. رائحة الموت تعج بها كل الدروب ، على أيمانك أصباغ الدماء ، وعن شمائلك رائحتها تتناقلها في حواصلها طيور السماء ..
وهنا صرخة مكلومة ، وهنا نسمة .. كان يُقال أنها كانت عذبة تحمل في أكمامها كل الحنين ..
وهناك في جُل الغصون سدرة خنساوات تدفن في أحشائها كل نبض لأنين ..
وهناك ابن تائه لفظته أنقاض الحياة منذ عقود ، وكتاب أدماه ذل المتخاذلين ، يلملم بقايا سطوره ، يقبله قبلة الحياة لينقش على جدرانه تاريخ شعب ما وهنت قلاعه منذ آلاف السنين ..
وهنا ..على مفارق الدروب كاد الربيع يسقط مُتعمدا من أوبئة خطايا أشباه الإنسانية،يحملون في رؤوسهم منابع غيظ وحقد ونبض أثيم ..
تعثرت أهداب الفؤاد بلوعة جفن قد أغشاه الدمع العقيم ..
عدتُ إلى رشدي لأكفكف دمع مئذنة فرّت من قسورة قد عانقها حمام النوح بعد أن تهاوت وجعا بصرخة كُبّلت في أمنية نائمة في قوارير عطر معتقة اختطفتها أيادي العابثين ..
استندتُ على ذاك الجدار ، لا ليس بجدار فالحق يُقال .. هو فتات من كومة ظلم وظلام غائر عجزت الصحائف أن تحتويها ..
ارتشفتُ جرعة صبر من علقم الزمان ، لأستغيث برب أيوب في السماء ، تقاسمتني ومدينتي تنهيدة من عرجون وجع ويقين نهاية ..
انتفضت ذاكرتي ، فتمثل أمامي ذاك الصديق المتمرد على أوجاعه والهارب من مزاجه المتقلب بكل غرور ..
هرعتُ إليه ، لطالما كان هو ذاك الكف الحنون ، يربت على سفوح غضبي لتستكين معه ويقول ، انهضي وابدئي من جديد ..
ولكنه هذه المرة هو من بث لي شكواه ، فابتلعت أنينه بصمت مكسور ، وارتشفت دمعه الغافي بين أمواجه الثائرة ، وكأنه كان يركض بلا هداية ، ليستجدي طيفي ويئن بعبرة الخيل وحمحمته التي تلقف رجفة عزة ضاعت على أبواب الاندثار ..
رويدك يا صديقي .. أ تبكي الأوجاع وأنت من تلقفها منا ، أتشكو الجراح وأنت من تضمد نبعها ؟! ..
تبسم بدمعة قد حارت بوجهتها و أهداني موجة حانية تداعب بنسيمها رمال قلوبنا..
ما بكيتُ ولكنه عجز الحال ، والعمر وما إليه قد آل ، مرافئي استبيحت ، وشطآني اغتيل الورد على أعتابها ، ورحلت شمسي بفتيل من سخط وأكفان ..
تقهقرت مدامعي ، واعتليت صهوة الكبرياء لأغصان الزيتون والبرتقال ، وصمود جذور السنديان ..
تجلجل ندائي بين أحشائي ..
ألا أيها الشامخ في عرينك صبرا .. على رسلك .. فنحن من تستعير الشمس منا ضياء الأكوان ، وإن كنا قد صرخنا ، فذلك لنطلق لعودتنا العنان ..
هذه فلسطيننا أرض أجدادك منذ الأزل ، وهذه أقصانا مسرى حبيبك منذ أزمان ، وتلك غزة هاشم أرض كنعان ، وهؤلاء رجال عرفوا الحق نصروه ، فنصرهم رب البرية والأكوان ، وهؤلاء حرائر العدنان ، يحملن في أرحامهن مجدا وفخر ثُوار ..
كفكفَ دمعي واحتضن صرختي المبحوحة ، وهمس بين أضلعي أننا ما زلنا هنا ، يغازل فجرنا الحياة كلما لاح ثغر السماء بالابتسام ..
جمعت أشلائي المتناثرة في غياهب الحزن ورجعت إلى خلوتي لأروي لها عن ذاك المسافر في ليل طويل موحش ، يواري عبرات الروح فكل من حوله أغراب لكنه.. ما زالت غصونه تداعب النجوم
فتلك هي مدينتي كانت ، وما زالت تصارع الموت وكل معتد جبان ..
# نجلاء جميل #
غزة هاشم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق