معروف صلاح أحمد
شاعر الفردوس يكتب :
دراسة نقدية
لقصيدة ( زخات منفى ) للشاعر السوري / ابو ايهم النابلسي
............................................
نص الاشتغال :
🚣♂️ أبو أيهم النابلسي/سورية
زخّـات منفـى
"" "" "" "" "" ""
وتمشـي ..
بـدرب الحيـاة وحيـداً
وظـلك يـرفض
أن يتبعـك ..
كـأن خطـاك بهـا بحَّـة
وكـل الأمـاكـن
لا تجمعـك ..
يضيـق بعينيـك هـذا الفضـاء
وأنـت تـرى
عـالمـاً يشـلعـك ..
فترجـع ضيّعـت حـسّ الفـؤاد
تسـائل يـا قلـب
مـا أرجعـك ..
زمـانٌ
عجيـبٌ مـريـبٌ غـريـب
وحتـى شعـورك
لا يسمعـك ..
فـراغ تمـدد فيـه الـرمـاد
متـاهـاتـه
كـلهـا تصفعـك ..
وتصحـو ..
لتـلقـى بعينيـك دمعـاً
فـلا تتـذكّـر
مـا أوجعـك ..
فتشعـر ..
أنـك خـارج هـذا الـوجود
وأنـك
لسـت معـك ..
بقلمي : أبو أيهم النابلسي
ديب عبد الرحمن النابلسي.
........................................
الدراسة النقدية :
** أولا العنوان : **
عنوان النص : ( زخات منفى ) ، وياله من عنوان جدلي مثير وجل خطير !! فحواه فيه جام تهجير ، يتكون من كلمتين الأولى ( زخات ) وهي سقوط حبيبات المطر باستمرار على هيئة رخات وفي القواميس والمعاجم : ( زخة : الجمع : زَخَّات
والزَّخَّةُ : الغيظُ والحِقْدُ
اسم مرَّة من زخَّ )، ( والزخة : دُفْعة من المطر، أي هطول المطر بغزارة وكثافة واستمرار )، والثانية ( منفى ) والمنفى تهجير بالغصب من أرض الوطن لبلاد غريبة وبعيدة ، فقد نفي البارودي لجزيرة سرنديب ، ونفي شوقي للأندلس ، ونفي سعد زغلول لجزيرة مالطة في البحر المتوسط، ونفي ثانية لجزيرة سيشل في المحيط الهندي ، ونفي غيرهم الكثير والكثير ، وفي القواميس والمعاجم وكتب اللغة : ( المَنْفَى : اسم مكان على وزن مفعل من الفعل نفَى ، والمنفي هو : مكان إقامة المطرود من بلاده ، مكانُ النَّفْي الجبري) وكأن الشاعر فعلا يعيش في منفى ومهجر قصرا من وطنه بسبب الظروف التي يعاني منها ( الوطن سوريا ) ، وكأن لسان حال الشاعر أسمعه يقول عن غربة نفسه وغربة أهله : ( نحن من بلد نصفه مهجر ، ولا تزال حملة التهجير مستمرة حتى الآن ، وكأنها زخات المطر ، وفي المنفى تتراكم الخيبات والأوجاع، وتتساقط علينا كالمطر حين يفقد الأمل في وطن كسيح ينتظر الشفاء والعودة من جديد )، فالشاعر سوري ( نابلسي ) منسوب إلى ( نابلس ) ومولود سنة ١٩٤٩ في قرية اليادودة وكان يعيش في محافظة ( درعا )، وجده من دولة ( فلسطين ) الشقيقة ، وكأن النفي أصبح مكتوبا على عائلة الشاعر ، وعلى نفسه وكأنه ( سلالة ، وجنس ، وعرق )، فالشاعر له (٧) سبعة أبناء مهاجرين وموزعين على (٥) خمسة دول كالتالي : (٢) اثنان منهما يحملان الدكتوراة ويعيشان في ( بريطانيا ) ، (٢) واثنان يعيشان في ( ألمانيا ) وهما : (مهندس ومعلمة ) ، وله ابن واحد (١) يعيش في ( رومانيا ) تخصصه : (دكتوراة في العظام ) ، وله ابنة واحدة (١) تعمل معلمة لغة عربية مقيمة ( بالأردن ) الشقيق ، وله ابن واحد (١) موجود في (سوريا ) الآن، والشاعر نفسه يعيش في ( ألمانيا ) الآن وتغرب أكثر من (٥٠) خمسين عاما تنقل فيها بين عدة دول ، فهو عاش منفى حقيقيا وتهجيرا منظما وواقعيا ، وعاش في غربة نفسية محروما من أولاده أو بعيدا عنهم ، لقد عمل شاعرنا بالتدريس لمدة خمس (٥) سنوات في (سوريا ) وعمل بعدها مدة (٢٠) عشرين سنة كاملة في ( الإمارات ) الشقيقة ؛ حيث
يقول الشاعر عن نفسه : ( كنت بالأردن ، ثم رومانيا ،
ثم ألمانيا ، وبعدها بريطانيا وأعيش حاليا واستقر بي المقام في ألمانيا )، ولهذا كان عنوان القصيدة : ( زخات منفى )، وهذا العنوان هو بوابة القصيدة ومفتاحها الذي ندلف ونعبر منه ونلج منه لكل إبداعات وأطروحات وأبعاد مفاهيم القصيدة وعمق موضوعها ، ودلالتها ومقصودها ، وهو عنوان به براعة استهلال وحسن جمال وفصاحة وعمق بيان ، وأصاب هذا العنوان مغزى القصيدة وهدفها ومحتواها والرسالة التي كتبت من أجلها القصيدة ( وجع وغربة الإنسان بعيدا عن وطنه محملا بكل الآلام ) ؛ حتى تصل للمتلقي في يسر وسهولة ، وهو عنوان رائع يكشف عمق الحياة وتفردها وخطورتها وضيقها في شلع العصر الحديث.
** ثانيا : العناصر الخمسة التى تحيط بالنص وهي : ( وصف النص وتصنيفه ونوعه وموضوعه وسبب وتاريخ كتابته )
١- تاريخ كتابة النص :
كتبت القصيدة فجر يوم الخميس الموافق ( ٢ -٩ -سبتمبىر ٢٠٢١ م ).
٢- وصف القصيدة : والقصيدة تتكون من ثمانية أبيات وتعتبر مقطوعة ( قطعة شعرية رائعة من روائع الشعر الإحيائي الكلاسيكي الخليلي التقليدي ) ؛ حتى وإن فرق الشاعر كلماتها وصاغها وجعلها سطورا وليس أبياتا ؛ وذلك لأن تفعيلاتها إذا جمعناها في كل بيت سنجدها متكونة من ( فعولن ) مكررة (٨) ثمان مرات في البيت الواحد ، منها (٤) أربعة تفعيلات في كل شطر من شطري البيت صدره وعجزه ، فهي موحدة الوزن وموحدة القافية ، ورويها مقيد ( بحرف الكاف الساكنة ).
٣- موضوع القصيدة : ( هو الإنسان في العصر الحديث الذي يعيش بين الغربة النفسية والتهجير القسري ونفى الذات خارج حدود الوطن المتهالك اقتصاديا بسبب الأزمات والحروب، والسفر والاغتراب الدائم للشاعر وغيره وراء صعوبة الحصول على لقمة العيش في الوطن الحر المصون وما بين هجرة الأبناء لتكوين مستقبلهم ، وشق طريقهم في الحياة بشكل يرضي طموحاتهم وآمالهم وأحلامهم.
٤- غرض النص :
يتفاوت النص في غرضه ويقع في منطقة وسطى ما بين الوطني والسياسي ( منفى ) ، والاجتماعي والاقتصادي والاغتراب الدائم على شكل (زخات متتالية من الردة والسقوط ) و ( ظل الغربة المكانية والنفسية والوحدة والرفض وحركة المجتمع ) من خلال مخاطبة الآخرين من خلال وجع غربة الذات، فمعظم السوريين يعيشون نفس هذه الحالة من التأزم والتقزم بسبب ظروف الوطن ، وما يجري من حولهم من ظروف الحياة.
٥- مناسبة النص والظروف التي دعت الشاعر لكتابة نصه بهذه الطريقة :
استمرار الهجرة الاختيارية هروبا من الواقع السيء والتهجير القسري في بعض المناطق والنزوح والإيواء والهروب للدول المجاورة في رحلات غالبا ما تنتهي بالموت أو الغربة النفسية أو المكانية أو الغربة عامة.
*** ثالثا : العنصر الموسيقي في النص ***
ويتكون من عنصرين اثنين هما : أولا الموسيقا الخارجية الطنانة الظاهرة الجلية المتمثلة في خمسة على التوالي هم : ( ١- الوزن ٢- القافية ٣- التصريع ٤- الجناس ٥- حسن التقسيم ) ،
وثانيا : الموسيقا الداخلية الخفية المتواجدة في تضافر الحروف وتناسب وتناسق الكلمات والعبارات.
وبيان ذلك كالأتي :
أولا الموسيقا الخارجية الظاهرة الجلية :
١- الوزن :
القصيدة منسوجة على بحر المتقارب أو وزن ( فعولن //٥/٥ ) مكررة (٨) ثمان مرات في كل بيت من أبيات القصيدة من أولها حتى آخرها، (٤) اربع تفعيلات في كل شطر من شطري البيت الصدر أو العجز ، ومفتاح هذا البحر كالتالي : ( عن المتقارب قال الخليل ..... فعولن فعولن فعولن فعولن ) ، وسمي هذا البحر المتقارب لقرب أوتاده من أسبابه ، ولقرب أسبابه من أوتاده ، لأن بين كل وتدين سببا واحدا ، وسمي المتقارب متقاربا لتقارب أجزائه أي تماثلها وعدم الطول وعدم البعد فيها ؛ لأنها كلها خماسية ، ولم تطل ولم تتباعد بكثرة الحروفة، وهو بداية الدائرة الخامسة ( المجتلب ) من دوائر الخليل ، واستخدم الشاعر في حشو أبيات القصيدة زحاف ( القبض ) وهو حذف الساكن الخامس من آخر السبب الخفيف من تفعيلة ( فعولن //٥/٥ ) فتتحول إلى ( فعول //٥/ ) لزيادة سرعة الأبيات لبيان التيرم والضيق النفسي والوحدة والمنفى اللذين يعاني منهما الشاعر .
تابع الموسيقا الخارجية :
٢- القافية :
القافية هي : ( اسم لعدد من الحروف ينتهي بها في كل بيت من أبيات القصيدة من أولها لأخرها ، وتعد هذه الحروف من أول متحرك قبل ساكنين من آخر كل بيت من أبيات القصيدة كما عرفها الخليل. وقافية هذه القصيدة ( المتدارك) ، وقافية المتدارك : كل لفظ قافية فصل بين ساكنيه متحركان متواليان هكذا : ( /ه//٥ ) ، وكلمات القافية الثمانية (٨) هي : ( يتبعك - تجمعك - يشلعك - أرجعك - أسمعك - يصنعك - أوجعك - تو معك ) ، والقافية ذات روي مقيد بحرف الكاف الساكنة ، وهي قافية مجردة من الردف والدخيل والتأسيس ، وحركة التوجيه فيها الفتحة على العين التي قبل روي الكاف الساكن ( روي مقيد موجه بحركة العين المفتوحة )، ولقد اختار الشاعر لقصيدته ( العروضة ) الأولى الصحيحة فيها ( زحاف القبض ) ، واختار الشاعر لقصيدته ( الضرب ) المحذوف فقد أصابته علة ( الحذف ) وهي : حذف السبب الخفيف من آخر تفعيلة ( فعولن //٥/٥ ) فتتحول إلى ( فعو //٥ ) وتنقل إلى ( فعل //٥ ) أي : (وتد مجموع ) لتسهيل النطق على القاريء.
تابع الموسيقا الخارجية :
٣- التصريع :
وهو اتفاق كل من العروض والضرب في الحرف الأخير من البيت الأول من القصيدة فقط مثل دلفتي الباب الذي ندخل منه للقصيدة ، والشاعر لم يستخدم في البيت الأول التصريع بين ( وحيدا ) في العروض ، و ( يتبعك ) في الضرب فلا يوجد تسريع في القصيدة أو في بيتها الأول.
٤- الجناس الناقص : وهو تشابه بين الكلمتين في الحروف مع اختلاف معناهما ، والشاعر لم يستخدم الجناس بصورة مقصودة لأنه ليس من مدرسة عبيد الشعر والصنعة التي تعتمد عليه اعتمادا كليا، والشاعر لم يقصده قصدا ولم يعول عليه ، وإنما أتى به على استحياء ؛ لأن شاعرنا مطبوع وكتاباته رقيقة وهامسة وتكتب بإحساس صادق جياش ، وتكتب بأسلوب سهل ممتنع ( أسلوب الفطرة ) الذي يستعصي على الكثيرين. والجناس في القصيدة غير متكلف ، وغير مصنوع ويأتي عفو الخاطر ،وربما لا يوجد إلا في موضع أو موضعين مثل : ( أرجعك - أوجعك ) ، ( عجيب - غريب - مريب ) ، (الرماد - الفضاء )، وسر جمال ( التجنيس أو الجناس) : إنه يعطي جرسا موسيقيا ونغمة تستريح لها الأذن ويشد انتباه السامع ويساعد على حفظ أبيات القصيدة .
٥- حسن النقسيم : وهو تقسيم الأبيات لوحدات متساوية من التفعيلات والأوزان الصرفية في أزمنة متساوية وقياسية وربما وجد في موضع واحد هو : ( فراغ تمدد فيه الرماد = فترجع ضيعت الفؤاد = يضيق لعينيك هذا الفضاء ). وسر جماله يعطى همسات ودفقات شعورية متتالية وتنغيمات متوازنة تسر النفس وتسعد الروح والقلب.
( ثانيا الموسيقا الداخلية ) : والتي تنبع من تضافر الحروف وتناسب الألفاظ وتناسق الجمل وتناغم الكلمات وانسجام العبارات وخير من يمثل ذلك هو خصيصة ( ظاهرة التكرار ) من مثل : ( هذا ) فقد تكررت في القصيدة مرتين ، ( حتى ) تكررت مرتين ، ( كل - كلها ) معا مرتين ، (إنك ) مرتين ، ( كاف الخطاب ) تكررت (١٥ ) مرة خمس عشرة مرة ، ( حرف العطف الواو العاطفة تكررت (٥) خمس مرات ) ، ( إلقاء العاطفة تكررت مرتين ) ، وكذلك استخدام الجر والمرور بحرف الجر الباء تكررت مرتين ( بدروب - بعينيك ) ، ( عينيك ) تكررت مرتين ، المضاف إليه (٦) ست مرات : ( الحياة - الأماكن - بعينيك - خطاك - شعورك - معك )، المفعول به تكرر صريحا منونا بالفتح في كلمتين هما ( دمعا - عالما ) وبكاف الخطاب مع الفعل : ( تجمعك - تصغعك - أرجعك - أوجعك - يسمعك - يشلعك ) ست ( ٦ ) مرات ، و تعد ظاهرة التكرار خصيصة مهمة من خصائص اسلوب الشاعر. ولقد وفق الشاعر في استخدام العنصر الموسيقي.
*** رابعا : شرح أبيات القصيدة ****
الشاعر يخاطب الآخرين من خلال خطابه للذات فيجعل الشاعر من ذاته ومن نفسه مخاطبا يخاطب بها الآخرين فيلقي الكلام على ذاته ويقصد به المتلقي من الجمهور وعموم الناس سواء أكان سامعا أو قارئا أو حتى ضليعا ودارسا فيقول في البيت الأول : ( ١- وتمشي بدروب الحياة وحيدا ... وظلك يرفض أن يتبعك ) فيقرر الشاعر هنا أنه سار في كل طرق الحياة المختلفة والمتفاوتة والمتعددة وئيدا ووحيدا حتى أن ظله يرفض أن يتبعه ولماذا ذلك ؟ بسبب الغربة والوحدة والتشتت.
وفي البيت الثاني : ( ٢- كأن خطاك بها بحة ... وكل الأماكن لا تجمعك ) وهنا يؤكد الشاعر باستخدام أداة التشبيه ( كأن ) التي تفيد التشبيه والظن والشك وباستخدام ( كل ) التي تفيد العموم والشمول ، وباستخدام الاستعارة المكنية والتشبيه التمثيلي فيقول : وكأنه صوت خطاك الثقيلة مثل الصوت لها وفيها ( بحة ) ، وكل الأماكن التي يصل إليها صوت خطاه عقيمة لا تجمعه ، حتى الظل يرفضه.
وفي البيت الثالث : ( يضيق بعينيك هذا الفضاء .. وأنت ترى عالما يشلعك ). وهنا يقرر الشاعر ويؤكد باستخدام الفعل المضارع الذي يفيد التجدد والتتابع والاستمرار واستحضار الصورة في الذهن أنه يضيق بعينيه كل هذا الفضاء الرحب الواسع والفسيح يضيق أمام مرمى عينيه بسبب سوء حالته النفسية والغربة التي يعيشها ويحياها، وأنت ترى وتشاهد بأم عينيك وأمام ناظريك أن هذا الوجود وهذا العالم يستخدم القوة وينزعك من وطنك كما ينزع الوتد من الأرض، وكما تشلع جزوع النخلة أوجذور الشجرة من مكانها قسرا وظلما فيخلعك ويطردك ويحبسك في منفاك وغربتك المكانية ووحدتك النفسية الشاردة.
وفي البيت الرابع : ( ٤- فترجع ضيعت حتى الفؤاد .. تسائل يا قلب ما أرحعك ؟ ) وفي هذا البيت يفهمنا الشاعر إنه بعد عودته ورجوعه من منفاه رجع وقد ضاع منه قلبه وفؤاده ( لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ... آية ٣٦ من سورة الإسراء ) ، ويسائل الشاعر قلبه باستخدام أداة الاستفهام ( ما ) الاستفهامية ( ما الذي أرجعك ؟ ) ومن الذي خلصك من منفى وحدتك وغربتك؟ إنه الزمن.
وفي البيت الخامس : ( ٥ - زمان عجيب مريب غريب .. وحتى شعورك لا يسمعك ) إنه الزمان الأجرب الغريب المريب الذي به شك هو الذي أرجعك ، وباستخدام أداة العطف ( حتى ) التي تفيد الغاية والهدف ، وباستخدام الاستعارة المكنية وأسلوب النفي بأداته ( لا ) النافية حيث شبه الشاعر إحساسه ومشاعر ووجدانة بإنسان له آذن صماء لا يسمع بها ولا تستجيب له وسر جمالها التشخيص.
وفي البيت السادس : ( ٦- فراغ تمدد فيه الرماد .. متاهاته كلها تصفعك ) وفي هذا البيت يستخدم الشاعر الاستعارة المكنية حيث جعل من الفراغ أرض تتمدد بالرماد ومتاهاتها واسعة وباستخدام التوكيد المعنوي ( كلها ) تصفعك وفيها تشخيص حيث جعل من المتاهات إنسانا يقوم بعملية الصفع أو عملية حرق للذات.
وفي البيت السابع : ( ٧ - وتصحو لتلقى. بعينيك دمعا .. فلا تتذكر ما أوجعك ) وهنا وفي هذا البيت يقرر الشاعر أنه كان في سنة من نوم وسبات، وكان مستغرقا في حلمه وضيقه النفسي وكأنه في رحلة نهايتها ومآلاها الدموع ، وعندما صحا واستيقظ من نومه وجد الدموع تبلل وتغرق مجرى خديه، ولقد شاهد الشاعر ذلك بأن عينيه وأمام تاظريه فلا يتذكر السبب في ذلك وباستخدام ( ما ) الموصلة غير العاقلة بمعني الذى ( فلا يتذكر الشاعر ما أوجعه أو الذي آلامه وعذبه.
وفي البيت الثامن والأخير من المقطوعة : ( ٨ - فتشعر أنك خارج هذا الوجود ... وأنك لست معك ) يقرر الشاعر في هذا البيت ( المدور موصول التفعيلات ) أن الشاعر يحس ويشعر وينبض أنه خارج حدود الكون وخارج الحياة والوجود بسبب ما أصابه من تأزم وتشتت وتقزم ، وأنه مغيب عن العالم وأن روحه وذاته ليست معه ولا يشعر بها أنه في منفي أنه في غربة . و بهذا يتضح أن الشاعر متأثر بالإحيائية والكلاسيكية القديمة والحديثة في قصيدة ( في سرنديب ) ( لكل دمع جرى من مقلتي سبب ... وكيف يملك دمع العين مكتئب ) للبارودي ، وقصيدة (غربة وحنين ) لأحمد شوقي ( اختلاف النهار والليل ينسي .. تذكرت لي الصبا وأيام أنسي ) ، وأن الشاعر متأثر بمدرسة وأدب المهاجر وقصيدة فلسفة الحياة ( أيهذا الشاكي ) لإيليا أبي ماضي حين يقول : ( والذي نفسه بغير جمال ..لا يرى في الوجود شيئا جميلا ) ... ( أيها الشاكي وما بك داء من جميلا ترى الوجود جميلا ). وبقصيدة ( كم تشتكي ) ىإيليا أبي ماض .. ( كم تشتكي وتقول أنك معدم .. والأرض ملكك والسما والأنجم )...... ( هشت لك الدنيا فمالك واجما .... وتبسمت فعلام لا تتبسم ؟ )
***** خامسا : الأساليب في القصيدة *****
١-أولا الأساليب الإنشائية :
١- ( يا قلب ) : أسلوب نداء للتنبيه ، وفيه تشخيص للقلب بصورة ( إنسان ) له أذن يسمع بها ويستجيب للنداء .. ٢- ( ما أرجعك ؟ ) : أسلوب استفهام استفساري يسأل فيه الشاعر قلبه عن سبب رجوعه بعد ضياع الفؤاد ... وبقية القصيدة أساليب خبرية ومنها :
ثانيا الأساليب الخبرية :
١- أسلوب النفي الذي يفيد التوكيد تكرر أربع مرات على التوالي هي :
١- ( لا تجمعك ) ٢- ( لا يسمعك ) ٣- ( فلا تتذكر ) ٤- ( لست معك ).
٢- أسلوب التوكيد باستخدام أداة التوكيد ( إن - أن ) وتكررت مرتين على التوالي هما : ١- ( إنك خارج هذا الوجود ) ٢- ( وأنك لست معك ) في آخر بيت.
٣- أسلوب التوكيد باستخدام الطلاق بالتضاد مثل : ( يضيق × الفضاء ) ، ( يضيق × فراغ ) ، ( يضيق × متاهات ) ، ( يضيق × تمدد ) ، ( ضيعت × أرجع ).
٤- إطناب بالترادف في : ( الحياة = الوجود = عالما ) ٥- تعليل لما قبله باستخدام أداة التعليل ( اللام ) في قول الشاعر : ( وتصحو لتلقى... دمعا ).
ثالثا : التعبيرات العملاقة في النص منها التشبيه والاستعارة ومن أمثلة ذلك : ( كأن خطاك بها بحة ) ، ( ظلك يرفض ) ، ( يضيق ... الفضاء ) ، ( ضيعت الفؤاد ) ، ( شعورك لا يسمعك ) ، ( فراغ تمدد فيه الرماد ) ، ( متاهاته كلها تصفعك ). وكلها تعبيرات تدل على الحيرة والتشتت والتقزم والغربة النفسية...
****** سادسا : شخصية الشاعر وسماته من خلال النص ******
١- الشاعر واع ومثقف ودارس وتتسم شخصيته بالذكاء فهو لا ينتمي إلى مدرسة أدبية معينة أو اتجاه شعري واحد محدد وإنما ينتمي إلى الشعر نفسه فقط ، وأعني بذلك أنه يكتب كل أنواع الشعر بما فيها القصيدة النثرية وشعر الهايكو وما شابهه ....
٢-ومن الشعراء المفضلين عند الشاعر والذي يحب أن يقرأهم جيل الحلقة المفقودة جيل انهيار فكرة المشروع القومي والعروبة جيل النكسة وهزيمة ناصر ١٩٦٧ م حتى الوصول للنصر في أكتوبر السادات ١٩٧٣م مرورا بحرب الاستنزاف إلى المصالحة والتطبيع والسلام وهم : ( محمود درويش - أمل دنقل - صلاح عبد الصبور - أدونيس - الماغوط وغيرهم) وكلهم من أصحاب شعر التفعيلة (الواقعية أو مدرسة الشعر الحر ) حين أجادوا في الستينات والسبعينات..
٣- الشاعر ممن يمزجون بالفلسفة التاريخ وحركة المجتمع بالشعر ويعتبره الشاعر أرقى أنواع الشعر وأرقى الرسائل والوسائل الأدبية للتعبير عن أنواع النفس وشجونها فالشعر عند الشاعر هو الشكل الجميل للحياة والذي يتحول إلى كلمات...
٤- الشاعر محب لوطنه وعاشق لبلاده ، ويعتبر الشعر هو الذي يتراوح ويتمازج بين الفلسفة والروح والدين وزفرة البوح وذاكرة الأمة التي ترسم تفاصيل الحياة وتزيد حروفها مواويلا وأجراسا وتنبيهات لجمال الحياة ونعومتها أو لخشونتها بقبح أحداثها والمتنفس الوحيد لحب الوطن والتعبير عن الذات الإنسانية والنزوع إليها والهروب منها ...
******* سابعا : ظاهرة الأفعال في القصيدة *******
١-الأفعال المضارعة : ( تمشي - يرفض - يتبعك - تجمعك - يضيق - ترى - يشلعك - ترجع - تسائل - يسمعك - تصفعك - تصحو - تلقى - تتذكر - تشعر ) خمسة عشر (١٥) فعلا مضارعا بالتمام والكمال.
٢- الأفعال الماضية : ( ضيعت - أرجعك - تمدد - أوجعك ) أربعة (٤) أفعال ماضية بالتمام والكمال.
٣- أفعال الأمر لا يوجد محصلتها ( صفر )..
وعليه تكون النسبة كالتالي : ( مضارع ١٥ : ماضي ٤ : أمر صفر ) ،وهكذا كانت الغلبة لأفعال المضارعة الآنية ( أربعة أمثال الماضي تقريبا ) التي تفيد تجدد حالة الغربة في منفي النفس والروح والنزوح عن الوطن واستمرار وتتابع هذه الحالة المنفرة التي تفيد الألم والعذاب على حساب الماضي الذي يفيد الثبوت والتوكيد والاستقرار وعلى حساب الأمر والطلب والنصح والإرشاد ، فالشاعر متواضع ولا يلقي أوامرا بل يشعر بالضيق من هذا العالم ومن هذا الزمان الغريب المريب ...والشاعر موفق جدا في استخدام الزمن.
** ثامنا : الصورة الكلية القصيدة ( الخيال الكلي )**
استطاع الشاعر بشكل احترافي أن يحول فضاءات الكلمات في القصيدة واللغة الانزياحية لصورة حسية ملموسة ولوحة زيتية ( جدارية ) تعلق على الحائط مرسومة بيد فنان تشكيلي ماهر وموهوب وتجلت : ١- ( شخوص هذه اللوحة ) في شاعر محبط فنان محنك رب أسرة يعيش في ظلمة حالكة من الاغتراب النفسي و عزلة المنفي الروحي والمكاني، فالذات مشتتة بعيدة عن وطنها الأم الذي انهار بسبب الويلات والحروب والشاعر في منفاه وغربته يمثل الإنسان المتهالك في العصر الحديث يعيش بالأوجاع والآلام ويتجرع من كأس مرار الاغتراب الكثير في زمن أجرب غريب مريب ( ظله ) يرفض أن يتبعه ، و مطرود من( عالمه ) وخارج نطاق الحياة ، حيث يتمدد ( الفراغ ) ، ويتسع ( الفضاء ) ويضيق أمام ( عينيه ) الوجود ولا ترجعه ( الأحلام ) و( المتاهات ) التي يصحو منها فلقد ضاع (قلبه وفؤاده ) وعاش بلا شعور مشلوع من (وطنه ) يمشي في ( دروب ) الحياة وحيدا فقد غاب عنه ( أولاده ) ، ولقد تجلت : ٢- ( خيوط هذه اللوحة ) في : ( صوت ولون وحركة ) ..
١- ومن الألفاظ التي تدل على الحركة : ( تمشي - ظلك - يرفض - دروب - يتبعك - خطاك - الأماكن - تجمعك - يضيق - الفضاء ؛ ترى - يشلعك - ترجع - ضيعت - أرجعك - تمدد - متاهاته - تصفعك - تصحو - تلقى - خارج - دمعا) تنتان وعشرون (٢٢) كلمة ،
٢- ومن الكلمات التي تدل على اللون : ( دروب - ظلك - الأماكن - عينيك - الفضاء - عالم - قلب - الرماد - بعينيك - دمعا ) عشر (١٠) كلمات .
٣- ومن الكلمات التي تدل على الصوت : ( يرفض - خطاك - بحة - تسائل - قلب - يسمعك - تصفعك - تصحو - أوجعك ) تسع (٩) كلمات .
وعليه تكون النسبة كالتالي :
( الحركة ٢٢ : اللون ١٠ : الصوت ٩ ) والغلبة تكون لكلمات الحركة التىي تدل على السفر والبعد والاغتراب.
** تاسعا : الوحدة العضوية في القصيدة **
ونسأل هنا سؤالا هل تحققت الوحدة الفنية في القصيدة ؟ والإجابة على هذا السؤال هو ( نعم تحققت الوحدة العضوية في القصيدة ) وبيان ذلك وشرحه كالتالي :
استطاع الشاعر أن يجعل الوحدة الفنية في القصيدة ( وحدة الفكر والموضوع ووحدة الشعور الجياش والجو النفسي ووحدة الأسلوب ووحدة الموسيقا كوحدة الجسد الواحد في الإنسان ( خلايا وأنسجة وأعضاء وأجهزة تحكمها الفترة والعقل و الجمال )
كل عضو وكل جهاز يؤدي مهمته على أكمل وجه مناسب كل عضو في مكانه المناسب مثل الرجل المناسب في المكان المناسب في سحر وبيان فتحققت الوحدة العضوية بين القلب والقالب بين اللفظ والمعنى بين العبارة والصورة البيانية بين الأسلوب والمحسنات البديعية .. فجاءت القصيدة متألقة وسلم فيها الوزن من الكسر ، وسلمت فيها القوافي من العيوب فتم الإبداع على أجمل صورته وحق للشاعر أن يتيه ويفتخر بقصيدته بداية من العنوان المتألق ( زخات منفى ) حتى نسيان الشاعر ذاته في نهاية القصيدة ( وأنك لست معك ) مرورا بخطا الغربة التي بها (بحة وأنين وطنين ألم ) إلى ضيق الفضاء الرحب وتمدد الرماد فيه بفعل الزمان المريب العجيب ونزول الدموع ، وشعور الشاعر الذي لا يسمعه ... حقا إنها قصيدة مترابطة ومتكاملة الأطراف ومنسجمة الأضلاع وتحققت فيها الوحدة العضوية وحدة الفكر والموضوع ووحدة الجو النفسي حتى صارت مغلفة بالآلام ومبطنة بوجع قهر الذات ، والسفر بين البلاد.
والشاعر موفق في هذا العنصر ويحسب له ذلك.
*** عاشرا : امتزاج الفكر بالوجدان في التجربة الشعرية ***
الشاعر الجيد هو الذي يفكر بوجدانه وأحاسيسه ومشاعره ، ويشعر ويحس وينبض بعقله ولبه وكمال رشده وعبقريته فيتطيع أن يمزج جام موضوع قصيدته ( زخات منفى ) بجل عاطفته الجياشة ( آلام الغربة بأبعادها النفسي والمكاني والزماني ..)
في إطار وشكل نموذجي إحيائي تراثي موزون ومقفى ودال على معنى عبر الخيال وبأسلوب رائع
فامتزج الفكر بالوجدان والقلب بالقالب والشكل بالمضمون في ثنائية جدلية غبر موقف الشاعر وتأزمه وغربته فيشعر الشاعر إنه خارج هذا الوجود وأنه ليس مع ذاته ولا يتذكر ما أوجعه ويمشي في دروب الحياة وحيدا ويرفض ظله أن يتبعه والعالم يشلعه فضاع منه القلب والفؤاد وعاش في متاهة وفراغ ورماد..
*** عيوب القصيدة ***
١- المآخذ الشكلية :
لقد أعتدنا جميعا أن نكتب التنوين المنصوب بفتحتين فوق الألف متأثرين ( بمدرسة الكوفة ) ، وهكذا فعل شاعرنا فقد كتب : ( وحيدا - عالما - دمعا ) والتنوين فوقق الألف ، والصواب هو رأي ( مدرسة البصرة ) أن التننوين بالفتح يكتب على الحرف الذي قبل الألف على الدال في كلمة ( وحيدا ) ، وعلى الميم في كلمة ( عالما ) ، وعلى العين في كلمة ( دمعا ).
٢- مآخذ المضمون :
وجدنا قول الشاعر : ( يضيق بعينيك هذا الفضاء ) يتعارض مع قول الشاعر نفسه في القصيدة ( فراغ تمدد فيه الرماد متاهاته كلها تصفعك ) ، ويمكن الدفاع عن الشاعر بقولنا إن الغربة النفسية التي يحياهها الشاعر هي التي أدت إلى هذا التعارض ولو شكليا أو ظاهريا.
................................................
الناقد / معروف صلاح أحمد
شاعر الفردوس ، القاهرة ، مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق