الاحباط
قصة قصيرة
حافظ خليل الهيتي
ما زال الوقت مبكراً ، صباح هذا اليوم المشرق الجميل ، الجو معتدل والهواء عليل ، وسعيد أكمل للتو تنظيف المقهى وجهز الموقد واعد الشاي ، ليستقبل زبائنه ، كعادتهم يأتون تباعاً إلى مقهى حارتهم ، يستهلكون سويعات عمرهم مع البطالة . التفت سعيد حيث وقع عصا العم ابراهيم ، و هو يهم بالدخول متوكئا ً، ليلقي ببدنه النحيف المتعب على أريكة قديمة متهالكة ، في الزاوية القريبة ، ليريح ساقيه اللتين لم تعدا تقويان على حمل هذا الجسد الهزيل . اقترب منه سعيد قائلا :
- أترغب بكأس شاي يا عم ؟ فأومأ برأسه معلناً الموافقة ، ثم دس يده في جيب دشداشته البالية واستل علبة سكائره الرديئة ، لكي يزاوج بين نكهة الشاي والسيكارة ، وهذه أعلى مراحل السعادة لديه .
ارتشف رشفة اتبعها بأخذ نفس من سيكارته ، ليملأ صدره المثقل بهموم الدنيا والمرض ، اخرجه مع زفيره من منخريه ، متخللاً شعر شاربه الأبيض ، الذي بات اصفرا لكثرة التدخين ، وكأني به ، يريد أن يقذف بحمم اعتلج بها صدره ، سببها مرجل السنين العجاف ، التي شملت كل عمره ، منذ أن أبصر النور ، إلى أن أحناه الزمن ، فلم ير يوماً سعيداً هانئاً أصاب فيه كسباً سهلاً كالآخرين ، أو نجح له مسعى في تحقيق مشروع داعب خياله.
هكذا هو ، قد امتطى أسوأ بغال الدنيا ، فكبت به ولم تدركه مبتغاه ، ثم رشف رشفة أخرى و هو يتمتم بكلمات غير مفهومة ، وكأنه يحدث جليساً معه ، ثم اردف قائلا : وبعد ! ما الذي أصبناه من هذه الدنيا ؟ ها أنا في العقد الثامن من العمر وانا اتسكعً من شارع لشارع ، ومن رصيف لآخر ، تسحقني رغباتي التي لم اتمكن من تحقيق ابسطها ، أكابد في الحصول على لقمة أسد بها رمقي ، ولا املك جحرا يؤويني ، لأتوارى خلف حجارته ، بعيداً عن عيون لم اعد احتمل نظراتها القاتلة ، عيون يتطاير منها شرر كراهية ، وكأنني أثقلت على الجميع ، فلم يعد لهم متسع على ظهر هذا الكوكب بسببي ، وأحس برغبتهم بركلي بالأرجل ، وقذفي فوق تل القمامة الذي لم يجد من يرفعه هذه الأيام ، ثم أخذته حالة من الوجوم ، وهو يجتر أحلاما عتيقة ، قبرت في رأسه ولحدت في جمجمته ، ولم تر النور .
آه كم هي مبرحة آلام هذا الظهر الذي اثقلته الأيام باتعس احمالها ، واحناه زمن القحط هذا .
مد رجليه إلى امام متمطيا ، دافعا جسده إلى الخلف ، ليتكئ على مسند الأريكة المتهالكة والهرمة هي الأخرى ، لعله يريح ظهره ويتخلص من هذه الآلام ، لكن القدر كان له بالمرصاد ... كسر المسند وتهاوى مع الأريكة على قفاه أرضا وارتطم رأسه بزاوية حادة عند أسفل الجدار .. هرول سعيد ليعينه على النهوض ، و هو يصرخ يا عم .. يا عم .. لا حراك .. لقد انتهى المسكين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق