بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

الإحباط - قصة قصيرة / للأديب المبدع حافظ خليل الهيتي

الاحباط 
قصة قصيرة
حافظ خليل الهيتي 
ما زال الوقت مبكراً ، صباح هذا اليوم المشرق الجميل ، الجو معتدل والهواء عليل ، وسعيد أكمل للتو تنظيف المقهى  وجهز الموقد واعد الشاي ، ليستقبل زبائنه ، كعادتهم يأتون  تباعاً إلى مقهى حارتهم ، يستهلكون سويعات عمرهم مع البطالة . التفت سعيد حيث وقع عصا العم ابراهيم ، و هو يهم بالدخول متوكئا ً، ليلقي ببدنه النحيف المتعب على أريكة قديمة متهالكة ، في الزاوية القريبة ، ليريح ساقيه اللتين لم تعدا تقويان على حمل هذا الجسد الهزيل . اقترب منه سعيد قائلا :
- أترغب  بكأس  شاي يا عم ؟ فأومأ برأسه معلناً الموافقة ، ثم دس  يده  في  جيب  دشداشته  البالية  واستل  علبة  سكائره الرديئة  ،  لكي يزاوج بين نكهة الشاي والسيكارة ، وهذه أعلى مراحل السعادة لديه .
ارتشف  رشفة  اتبعها  بأخذ  نفس  من  سيكارته  ، ليملأ صدره المثقل  بهموم  الدنيا والمرض ، اخرجه مع زفيره من منخريه ، متخللاً  شعر شاربه الأبيض ، الذي بات اصفرا لكثرة التدخين ، وكأني  به  ،  يريد  أن  يقذف  بحمم  اعتلج  بها صدره ، سببها مرجل  السنين  العجاف ، التي  شملت كل عمره ، منذ أن أبصر النور ، إلى  أن  أحناه  الزمن  ،  فلم ير يوماً سعيداً هانئاً أصاب فيه  كسباً  سهلاً  كالآخرين  ،  أو  نجح  له  مسعى  في تحقيق مشروع داعب خياله.
هكذا  هو  ،  قد  امتطى أسوأ بغال الدنيا ، فكبت به ولم تدركه مبتغاه  ،  ثم  رشف  رشفة  أخرى  و هو  يتمتم  بكلمات   غير مفهومة ، وكأنه يحدث جليساً معه ، ثم اردف قائلا : وبعد ! ما الذي أصبناه  من  هذه الدنيا ؟ ها أنا في العقد الثامن من العمر وانا  اتسكعً  من  شارع  لشارع ، ومن رصيف لآخر ، تسحقني رغباتي التي  لم اتمكن من تحقيق ابسطها ، أكابد في الحصول على  لقمة  أسد  بها  رمقي ، ولا املك جحرا يؤويني ، لأتوارى خلف حجارته ، بعيداً عن عيون لم اعد احتمل نظراتها القاتلة ، عيون  يتطاير  منها شرر كراهية ، وكأنني أثقلت على الجميع ، فلم  يعد  لهم  متسع  على  ظهر  هذا الكوكب  بسببي ، وأحس برغبتهم بركلي بالأرجل ، وقذفي فوق تل القمامة الذي لم يجد من يرفعه هذه  الأيام ، ثم أخذته حالة من الوجوم ، وهو يجتر أحلاما  عتيقة ، قبرت  في  رأسه ولحدت في جمجمته ، ولم تر النور . 
آه  كم  هي  مبرحة  آلام  هذا  الظهر الذي اثقلته الأيام باتعس احمالها  ،  واحناه  زمن  القحط  هذا . 
مد  رجليه  إلى امام متمطيا ، دافعا جسده إلى الخلف ، ليتكئ على  مسند  الأريكة  المتهالكة والهرمة هي الأخرى ، لعله يريح ظهره  ويتخلص من هذه الآلام ، لكن القدر كان له بالمرصاد ... كسر  المسند  وتهاوى مع الأريكة على قفاه أرضا وارتطم رأسه بزاوية  حادة  عند  أسفل  الجدار  ..  هرول  سعيد ليعينه على النهوض ،  و هو  يصرخ  يا عم .. يا عم .. لا حراك .. لقد انتهى المسكين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق